بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، نوفمبر 23، 2010

بعد عشرين عاماً


  • بعد عشرين عاماً

    فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العودة

    السبت 07 ذو الحجة 1431

    الموافق 13 نوفمبر 11


    العربيّ يكره التخطيط .. هل هذا صحيح ؟

    إذاً فهذه المقالة ليست ذات علاقة بالتخطيط ، إنها لعبة فكرية جميلة لا تكلّف الكثير .

    ضع في عقلك رقم " عشرين سنة " ، وأضفه إلى أي شيء آخر في عقلك وانظر إلى النتيجة .

    كيف ستصبح أنت ؟

    كيف سيبدو أولادك ؟

    كم سيكون مالك ؟

    ما هي الأشياء التي ستبقى لك ، والأخرى التي سترحل ؟

    جربت هذه الفكرة فوجدت أثراً عجيباً ..

    - وجدت أنني مهموم حتى النخاع بقضايا تافهة وهامشيّة وصغيرة, حكمت أنه لن يبقى منها ذلك الحين حتى ولا ذكراها ولا عنوانها .

    - وجدت أن خبراً صغيراً أزعجني ، واتصالاً أثار قلقي ، ومقالاً رسم سحابة من الحزن فوق رأسي ، ورسالة ضاق بها صدري سيبدو نسياً منسياً ، وربما ستكون مصدر طرفة وضحكة مجلجلة آنذاك .

    - وجدت أن أعمالاً يومية تستغرق جلّ وقتي , وتفترش نهاري وبعض ليلي ؛ لن تكون حاضرة هناك ، لأنها قصيرة العمر ، كبعض الحشرات !

    - وجدت أن آثاراً إيجابية ستظلّ قائمة ، لأنها تراكم الزمن ، كالنشاط في الجسم الذي يتحرك ولا يرضى بالكسل والدعة .

    - ستظل آثار الأفعال الإيجابية -ولو كانت صغيرة- منعكسة على النفس .. رضاً وتفاؤلاً وأملاً وحباً للناس وإحساناً للظن بهم , وتوقعاً للخير منهم .

    - وستظل آثار الاعتياد على النسيان ، نسيان الأخطاء والأذايا والتنكر والتعويقات التي نلقاها ممن نعايشهم .. ستظل عادة جميلة راسخة بمرور الزمن .. بدلاً من أن نكبر فتضيق أخلاقنا ويتسارع غضبنا وتتنامى " شرهتنا " على من حولنا !

    - ستبقى معنا مشاريعنا المخلصة والجادة .. يمنحها الزمن وثائق النجاح مرة بعد أخرى .. ويعطيها الدرجة التي تستحق؛ فبعض أفكارنا ومشاريعنا عمره سنة ، أو عشر ، أو قل عشرين ، .. هل سيكون ثمّ مشروع أو فكرة تتجاوز العمر لتخلّد لأجيال قادمة فنذكر بها ذكراً حسناً ، كما دعا إبراهيم الخليل :

    (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء:84) ؟ ولم لا ؟

    وسنكتشف أن الكثير مما بذلنا له وقتنا وجهدنا وسهرنا وتحمسنا له .. كان غير ذي بال .. بدا لي هذا شيئاً شبه مؤكد ، حين استدعيت جيلاً سبقنا وقرأت اهتماماتهم .. ثم قارنتها بما صارت إليه بعد عشرين سنة ، فوجدت تصوراتٍ مبالغاً فيها عن الأخطار والعواقب ، ووجدت أوهاماً ضخمة عن المشاريع التي كانوا يحملونها .. يحمل الواحد مشروعاً يظنه تغييراً لخارطة الأرض والحياة , وفتحاً مبيناً , وعشرون سنة على الأكثر كفيلة بوضعه في حجمه الصحيح بعيداً عن الخيالات والتهيؤات والمبالغات !

    كنا نظن أن فتح موقع إلكتروني يتعاطى مع الناس بسرعة وإنجاز, ويغطي الأحداث ؛ سيكون بمثابة إطلاق كوكب سيّار , ثم تبين أن المواقع تكثر وتتنافس وتنفع .. وأيضاً يعطيها الزمن حقها العادل .

    وجاء ظن آخر ؛ بأن إطلاق مجلة أو دار نشر أو منتج وسائط إلكترونية ؛ سيغير وجه الفكر ونمط السلوك ، وظهر فيما بعد أن ثمّ مزاحمات ومؤثرات اجتماعية وإعلامية تعمل في الميدان ذاته ، وأن الناس يأخذون ويدعون ، ويتولد لديهم مع الزمن اعتياد وتعايش يقلل من تحقيق الآمال التي يتحدث عنها من يصنعون التأثير .

    أما إطلاق قناة فضائية فهو حلم المستحيل ، إنه يعني السيطرة على الفضاء وألا أحد يمكنه أن يوقف مسيرتك !

    وحين تصعد إلى الفضاء ؛ ستجد أنك رقم في سلسلة طويلة ، وشريك في قائمة ممتدة من التنوع والثراء والتراوح ما بين الطيب وضده ، والجاد والهازل ، والمؤثر وضعيف التأثير .

    يكفي أنك رقم ، لست شيئاً مهملاً أو عديم التأثير .

    - الأفكار التي نحملها وندافع عنها ونؤمن بها .. ماذا سيكون مصيرها بعد عشرين عاماً ؟

    - ثمّ قضايا ومسلمات لا يزيدها الزمن إلا رسوخاً ؛ لأنها حقائق قطعية ، فالإيمان يرسخ ويزداد بمضي الأيام والليالي وتكاثر الأدلة ، وتكرر الأعمال الصالحة ، وازدياد الحجج ، وتوافر النعم ، واستشعار رحمة الله وحكمته في النفس والأهل والحياة كلها .

    وثمّ أفكار ملحّة .. ومواقف قوية .. ستكون في عداد الموتى ، حتى نحن لا نذكرها ، ولا نريد أن نذكرها ؛ لأننا بذكرها نكتشف أننا نقلناها من دائرتها الوقتية الضيقة التي كانت تستحقها إلى دائرة أوسع ، وتعاملنا معها وكأنها قضايا الأبد .. وفاصلنا عليها وظلت ذكرياتنا وعلاقاتنا مرهونة لها ردحاً من الزمن .

    - حين تضيف رقم " عشرين " إلى أي فكرة أو قضية أو موقف يقلقك ، أو مشروع ؛ لن تزهد في الأشياء الصغيرة , ولكنك لن تضخمها على حساب الزمن ومتغيراته .

    وبهذه الطريقة العفوية ؛ ستتحول إلى خبير عفوي يخطط للعقل كيف يفكر في الأشياء ، وللقلب كيف يتعاطف ، وللسان كيف يعبّر ، وللجسد كيف ينشط ..

    هو ليس تخطيطاً ، بل تخطيط للتخطيط .. هندسة للفكر ، تربية للنفس ، اقتباس من التجربة ، تفاعل مع الحياة ، تجديد للرؤية ، انعتاق من سلطة الحاضر والآن ، باتجاه الانفتاح إلى زمن أوسع ، وحياة أفسح ، وكلما تفاءلنا بذلك الزمن وتوقعنا الأفضل كنا أكثر صحة نفسية ، وأدوم عطاء ، وأقرب للصواب .

    (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:1-8) صدق الله العظيم .


Sent from my iPhone

ليست هناك تعليقات: