كنتُ دوماً أعشق الجلوس على شرفة غرفتي . مطلّة على شوارع مدينتي الصاخبة بصمتْها . إزعاجها هو كثيرٌ من حفيفِ الأشجار ، وزحمة سير السماء بالطيور . صخبُ الناس بالإلتفات إلى ما يوجد في فناجين غيرهم ! أعتقد أن ساعات عيشي على هذه الدنيا ، تنحصر مكانياً على قطعة الاسمنت هذه . كثيرٌ من ازدحام الأوراق ، وأشرطة السيمفونيات . دفاتر وردية وبيضاء وزرقاء . وكتبٌ قرأتها وأخرى لم يحمّسني إهداؤها ! فناجيني تزدحمُ عادةً على منضدتي الخشبية . بعضها منتهية والبقية نسيتها فـ بَرُدَتْ . كنتُ قد بدأتُ مشروعَ عشقٍ محصورٌ في كتاب . لطالما اعتقدتُ أنني هجرت العُشّاقَ مؤخراً . فحاصرتُ نفسي بحبِّ رجالٍ ورقيّة . عشقتُ الشكوى لـقلبٍ خياليّ . واحتضان روحٍ ورقيّة . والهوسَ بأسماء لا تشبههم . هكذا كنتُ أعشق . وهكذا بدأ مشروعَ حبّي . كتابٌ من ألوانِ الطيف . وأوراقٌ باهتة حشرتها بين جلديه . فـ بدأ قلبي يتشكل بنصفيه . أخذتُ أول ورقة وكتبتُ ماضي كنتُ قد كرهته وأنا أسيرته . ..... الحبّ قد يسأم من روحٍ قد هلكته . ولكن الروحَ لا يمكن لها أن تسأم من حبٍّ قد ملكته . هكذا بدأت معركتي مع الحبّ . يُخيّل لي أنها منذ بدء البشرية وأنا وهو قد خُلقنا مشوهين ، وملتصقين . هبة ولعنة في نفس الوقت ، أن نتلاصق هكذا . ولزمنٍ طويل ظننتُ وآمنتُ أنها نعمة . فـ أحببتُ بلا اكتراث لسنواتٍ عديدة . وكنتُ في ساحات الحبّ أرقص وأصرخ . كنتُ أظن أني فقط ملطخة بدماء عاشقين غيري . لم أستوعب يوماً أنني أنزفْ ، وأنني أرقص على دمٍ هو ملكي ! علّمني العشقُ مليّا ، كيف يمكن خداع أنثى رقراقة مثلي . خداعها وهزمها في لعبتها ! في أكثر شيءٍ هي تتقنه .. مشاعر قلبها ! رقصتها كـ طاؤوس غرام ، وموتها كـ حمامة سلام في وطنٍ نازف . كانت تلك هي يوميات عاشقة تشبهني في وسط دهاليز العشق المغاير لاعتقاداتها ! ... انتهت ورقتي في الكتابة عن حلمٍ عشتهُ بتثاقل فنسيتُ معظم ملامحه . فتحت ورقة أخرى ، ممددة أمامي كمن تريديني أن أرسم لها ملامحَ لتشبهني ، كم هي غبية لتودّ أن تكون كأنا ، أو ربما كم أنا غبية لأودّ أن أصهر العالم كلّه ليشبهني ! ارتشفتُ من فناجني كيلا يبردَ هو الآخر فـ يضيع البنّ و الماءَ هباءً . مثل كل هذا الهواء الذي يحيط بنا . مهم ويضيعُ هباءً لأننا نتشارك فيه مع أشخاصَ لا يستحقونه ! فلسفة التنفس والهواء لا أستطيع أن أصهرها في فنجانٍ واحد قُدّرَ لي أن أشربه . لذا عُدتُ لأعاودَ الكتابة مجدداً . بدأتُ أكتبُ عن أشياءَ كنتُ أظنها أحلامي . لكنّها كانت أنا في حروفٍ لم أتعرّف عليها قبل أن أنتهي منها ! .... عشتُ طويلاً على مرأى من الحبّ ، وأنا أحاول أن أتهرب منه من طريق ، لأجده في آخر الممر متربعاً ويحيني بابتسامته العريضة . كنا دوماً في عمارةٍ واحدة . أحدنا في طابق والآخر فوقهُ تماماً . وأحياناً نكون كـ توأم متصلي الأعضاء . نوّد أن نهرب من بعضنا ، والأقدار لم تجعل ذلك خياراًً لنا . أشعر بأن العشقَ يودّ بكامل إرادته أن يهرب إلى عاشقة غيري ، أن يجدد الدماء التي منّي وتجري بشرايينه .. أشعر بهِ أحيانا يشتاق إليّ ، ويكرهني ، ويتودد إلى خاطري ، ويغدر بي . أحسّ بأعضائه تتلوى لأن تفارقني ، وتتلوى لأنها تحتار بقلبي . وكنتُ أنا الذكية والغبية هنا ، أفهمه ولا أفهمه . أهربُ منه ، لأعود إليه كـ عاشقة ممغنطة ! وأطير منه ، لأسقط عليه من أعلى الأعالي ليقنعني أن أبني كوخ قلبي على أرضه ! وأهرعُ راكضة منه ، ويبتلعني قبل أن أستطيع أن أتمسكَ بأرضٍ ليس بهِ أي رجلٌ غير ما تسطره أقلامي ! كنا على مرأى من بعضنا ، ونحتاطُ من شرّ وخيرِ بعضنا . ولم نجد يوماً السلام في قلبينا ! ... وانتهت ورقتي الأخرى . والرسومُ لم تنتهي . قلبٌ دامي هنا وريشة ممزقة هنا . آثار دماء ، ورجل يمشي بلا أصابع . وقبعة كلاسيكية للغاية . وأشياء كثيرة غير واضحة . احتضنتُ فنجاني وأخذت نظرة على المكان . الصخب بصمت ، والصمت بإزعاج .. لازالا مسيطرين على الأرجاء . مدينتي الناعسة ، كمّ أودّ أن أراكِ صاحية ، وكم أودّ أن أراكِ هادئة . كهذا الهدوء الذي ألتمسه من السحب . لا شيء يتحرك منها ، وإن تحركت ، لا نحسّ بها وإن أمطرت لا تعقدُ حاجبيها ، وإن أثلجت لا تصرخُ بصمتِ أشقائها . فتحتُ الصفحة ، وأردتُ أن أعاود الكتابة ، أخذني الهاجسُ بعيداً . حيث لا يمكن لرجلٍ أن يشدّني نحوه ، ولا لامرأة أن تفوقني أنوثة . كنتُ مُلكَ نفسي ، ومَلكةُ أحاسيسي . ومن ثم استوعبتُ أنها كانت سماءً سابعة ! أو ربما أرضاً ثامنة ! خَتمتُ أحلام يقظتي بتنهّد . وعدّتُ إلى الكتابة شيءٌ من الواقع الحاليّ كان ، أو شيئاً من رؤية مستقبلية كانت . .... انفصلنا أخيراً أنا والحبّ ، إنما فقط جسدياً . كانَ الحبّ يطاردُ أحلامي ، ويعيش حولي ، ويرُشّ المطر فوقي . وكنتُ أحتاطُ أن أراه يدور على مقربة منّي . إلا أننا لم نتلامس يوماً ، لم نرتشف قهوة معاً يوماً . أعلنَ الحبّ السلام معي . ليس تماماً لكن كنا دوماً نتملق ببعضنا طيلة أشهر وسنون . نراقب بعضنا ، هو لا يتجرأ أن يقترب مني ، وأنا لا أودّ أن أخطي خطوتي نحوه . سعيديّن هكذا . لم تنشب بيننا الحروب مرّة أخرى . ولم تُرقِ الدماءُ بَعداً ، اكتفى العشق من أن يرسل جنوده إليّ مرّة أخرى . خبأ الرجولة التي دائماً يغريني بها لأعودَ راكضة له . لم أعد أشعر ما يدور بخلده عندما يراني سعيدة بقلب فارغ . ولم أعد أتحسسه عندما يراقبني وأنا أتوق للعشق ولا أبحث عنه ، وعندما أبكي لأنني أدفعُ رجلاً خشية من أن أقع مع العشق بالتماس قد يؤدي بحياتنا معاً ! لم أعد أعرف ماذا يريد وكيف يشعر . ولا أدري فعلا إن كنتُ أشتاق له أو أفضّل الحياة بدونهِ . كان العشق في حالاتٍ كثيرة ، كـ القهوة التي أحبّ . مُرّة في وسطِ جُرعتها ، وتنتهي حُلوة ، لتعاودَ الاشتياقَ لها ، وتعود لتقعَ ضحية الحبّ مرّة أخرى ! لم أدرِ إلا أنني كنتُ قد اكتفيت بالتكلم عن العشق والعيش بهِ من خلال هذه الكلمات التي أكتب! .... وانتهت ورقة أخرى ، وقد كانتْ الأخيرة في كتاب كنت قد وقعت في غرامه . سخرية الكتاب أنني أنهيتها برسمةِ قلب ! التفتُ مرة أخرى خارج شرفتي ، أنوفٌ كثيرة تحاول أن تدسُّ نفسها ناحية كوخي المعلّق . الصخب الصامت هدأ فجأة ، وضاع في زحمة السير . السماء قد خلت من طيورها ، والأرض قد امتلأت بصبية يصرخون لبيع بضائعهم . وفتيات يتسولون من السيارات . والعديد العديد من أشخاصٍ ينعتون بعضهم بأسماءٍ لا أعرف بعضها . وأبواقَ قد خُلقت فقط للإزعاج ! . يجب أن يحاكَموا كل هؤلاء ، فقد انتهَكوا حُرمة الصباح ! |
بحث هذه المدونة الإلكترونية
الخميس، يوليو 15، 2010
منقول
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق